جميل بثينه
هو جميل بن عبد الله بن معمر بن الحارث بن ظبيان وُلد بالحجاز سنة (40 هـ - 660
م) وينتسب الى معدّ وهي مضريّة قرشيّة، حيث يقول:
أنـا جميـل فـي السّنام مـن معـــدْ
في الأسرة الحصداء والعيص الأشد
ولكن شهرة جميل تعود الى انتسابه لقبيلة عذرة كما تعود الى انتسابه الى حبيبته بثينه وأحيانا الى جده معمر. كنيته أبو عمرو، أما قبيلته عذره فقد كانت تقيم في وادي القرى بين الشام والمدينه وكانت على قسط وافر من الخصب والخيرات، وكان يتصف موقعهم السياسي بالاعتدال لأن أيامهم وحروبهم كانت قليلة الذكر حيث أنهم أشتركوا في فتح بلاد الشام .
والعذريون: اشتهرت تاريخيا بالعشق فقد زعم العرب أن بني قبيلة عذرة اشّد النّاس عشقا وأنّ قلوبهم رقيقة وعاطفتهم جيّاشه وأن شبّانهم وبناتهم على درجة كبيرة من العفاف.
كان جميل شاعراً فصيحاً مقدماً جامعاً للشعر والرواية، وكان في أول أمره راوية لشعر هدبة بن خشرم، كما كان كثير عزة راوية جميل فيما بعد، كان جميلا حسن الخلقة، كريم النفس، باسلاً، جواداً، شاعراً، مطبوعاً.
افتتن بـ بثينة بنت حيان بن ثعلبة العذرية، من فتيات قومه، خطبها من أبيها فرده وزوجها من رجل آخر، فازداد هياماً بها، فتناقل الناس أخبارهما، وقال فيها شعرا رقيقاً، وأكثر شعره في النسيب والغزل والفخر وأقله في المديح.
قصد جميل مصر وافدا على عبد العزيز بن مروان، بالفسطاط، فأكرمه عبد العزيز وأمر له بمنزل، أقام قليلا ومات ودفن في مصر، ولما بلغ بثينة خبر موته حزنت عليه حزنا شديدا وأنشدت:
وإن ســلوي عــن جـميل لسـاعة
مـن الدهـر مـا حانت ولا حان حينها
سـواء علينـا يا جميل بـن معمر
إذا مـت بأســاء الحيــاة ولينهــا
عشق جميل بثينة بنت يحيى من بني ربيعة، منذ الصغر فلما كبر خطبها فمنعه أهلها عنها، فأنطلق ينظم الشعر فيها فجمع لها قومها جمعاً ليأخذوه إذا أتاها فحذرته بثينة فاستخفى وقال:
فلو أن الغادون بثينة كلهم
غياري وكل حارب مزمع قتلي
لحاولتها إما نهاراً مجاهراً
وإما سرى ليلٍ ولو قطعت رجلي
وهجا قومها فاستعدوا عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ عامل المدينة، فنذر ليقطعن لسانه فلحق بجذام وقال:
أَتانِيَ عَن مَروانَ بِالغَيبِ أَنَّهُ
مُقيدٌ دَمي أَو قاطِعٌ مِن لِسانِيا
فَفي العيشِ مَنجاةٌ وَفي الأَرضِ مَذهَبٌ
إِذا نَحنُ رَفَّعنا لَهُنَّ المَثانِيا
وَرَدَّ الهَوى أُثنانُ حَتّى اِستَفَزَّني
مِنَ الحُبِّ مَعطوفُ الهَوى مِن بِلادِيا
بقى جميل هناك حتى عزل مروان عن المدينة، فأنصرف على بلاده وكان يختلف إليها سراً، كان لبثينة أخ يقال له حوَّاش عشق أخت جميل وتواعد للمفاخرة فغلبه جميل، ولما اجتمعوا لذلك قال أهل تيماء: قل يا جميل في نفسك ماشئت، فأنت الباسل الجواد الجمل، ولا تقل في أبيك شيئاً فإنه كان لصاً بتيماء في شملة لا تواري لبسته، وقالوا لحواش قل، وأنت دونه في نفسك وفي أبيك ما شئت فقد صحب النبي "صلى الله عليه وآله وسلم".
قال كثير: قال لي جميل يوماً: خذ لي موعداً مع بثينة، قلت: هل بينك وبينها علامة؟ قال: عهدي بهم وهم بوادي الدوم يرحضون ثيابهم، فأتيتهم فوجدت أباها قاعداً بالفناء، فسلمت، فرد وحادثته ساعة حتى استنشدني فأنشدته:
وَقُلتُ لَها ياعَزَّ أَرسَلَ صاحِبي
عَلى نَأيِ دارٍ وَالرَسولُ مُوَكَّلُ
بَأَن تَجعَلي بَيني وَبَينَكِ مَوعِداً
وَأَن تَأمُريني بِالَّذي فيهِ أَفعَلُ
وَآخِرُ عَهدٍ مِنكَ يَومَ لَقيتَني
بِأَسفَلِ وادي الدَومِ وَالثَوبُ يُغسَلُ
فضربت بثينة جانب الستر، وقالت إخسأ، ولما تساءل والدها، قالت: كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء هذه الرابية، قال: فأتيت جميلاً وأخبرته أنها وعدته وراء الرابية إذا نام الناس.
كما يروي ابن عياش قائلاً: خرجت من تيماء فرأيت عجوزاً على أتان - أنثى الحمار- فقلت من أنت؟، قالت: من عذرة، قلت: هل تروين عن جميل ومحبوبته شيئاً فقالت: نعم، إنا لعلى ماء بئر الجناب وقد أتقينا الطريق واعتزلنا مخافة جيوش تجيء من الشام إلى الحجاز، وقد خرج رجالنا في سفر، وخلفوا عندنا غلماناً أحداثاً، وقد أنحدر الغلمان عشية إلى صرم لهم قريب منا ينظرون إليهم، ويتحدثون عن جوار منهم فبقيت أنا وبثينة، إذا انحدر علينا منحدر من هضبة حذاءنا فسلم ونحن مستوحشون فرددت السلام، ونظرت فإذا برجل واقف شبهته بجميل.
فدنا فأثبته فقلت: أجميل؟ قال: إي والله، قلت: والله لقد عرضتنا ونفسك شراً فما جاء بك؟ قال: هذه الغول التي وراءك وأشار إلى بثينة، وإذا هو لا يتماسك فقمت إلى قعب فيه إقط مطحون وتمر، وإلى عكة فيها شيء من سمن فعصرته على الأقط " الجبن"، وأدنيته منه فقلت: أصب من هذا وقمت إلى سقاء لبن فصببت له في قدح ماء بارد وناولته، فشرب وتراجع فقلت له: لقد جهدت فما أمرك؟ فقال: أردت مصر فجئت أودعكم وأسلم عليكم، وأنا والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ليال أنظر أن أجد فرصة حتى رأيت منحدر فتيانكم العشية، فجئت لأحدث بكم عهداً، فحدثنا ساعة ثم ودعنا وانطلق، فلم نلبث إلا يسيراً حتى أتانا نعيه من مصر، توفي جميل في (82 هـ/701 م) ولكن يظل شعره ينبض بالحياة ويروي لنا قصة عاشق.
يقول جميل وهو يبكي على بثينة:
لقد ذرفتْ عينـي وطـال سُفوحُهـا
وأصبح من نفْسي سَقيماً، صحيحُهـا
ألا ليتنـا نحيْـا جميعـاً، وإن نمُـتْ
يجاور، في المَوتَى، ضريحي ضريحُها
فما أنا، في طُـول الحيـاة، براغـبٍ
إذا قيل قد سُـوّي عليهـا صفيحُهـا
أظلُّ نهـاري، مُستهامـاً، ويلْتقـي
مع الليلِ، رُوحي، في المنامِ وروحُها
فَهَلْ لي، في كتْمـان حُبّـي، راحـةٌ
وَهَلْ تنفعنّـي بوحـةٌ لـوْ أبوحُهـا
أجمل قصائده :
لعل أكثر ما يحفظ الناس من شعر جميل هذه الأبيات :
أبثين انك قد ملكت فأسجحي ..... وخذي بحظك من كريم واصل
فلرب عارضة علينا وصلها ..... بالجد تخلطه بقول الهازل
فأجبتها بالقول بعد تستر ..... حبي بثينة عن وصالك شاغلي
لو كان في قلبي كقدر قلامة ...... فضلا وصلتك أو أتتك رسائلي
صادت فؤادي يا بثين حبالكم ....... يوم الحجون وأخطأتك حبائلي
منيتني فلويت ما منيتني ...... وجعلت عاجل ما وعدت كآجل
و أطعت في عواذلا فهجرتني ...... وعصيت فيك وقد جهدن عواذلي
و تثاقلت لما رأت كلفي بها ..... أحبب الي بذلك من متثاقل
و يقلن انك يا بثين بخيلة ..... نفسي فداك من ضنين باخل
و يقلن انك قد رضيت بباطل ...... منها فهل لك في اجتناب الباطل
و لباطل ممن أحب حديثه أشهى ....... الي من البغيض الباذل
حاولنني لأبت حبل وصالكم ..... مني ولست وان جهدن بفاعل
فرددتهن وقد سعين بهجركم ........ لما سعين له بأفوق ناصل
يعضضن من غيظ لعي أناملا ....... ووددت لو يعضضن صم جنادل
ليزلن عنك هواي ثم يصلنني ........ فاذا هويت فما هواي بزائل
ويقول جميل متمنياً عودة الشباب:
ألا ليت ريعان الشباب جديدُ
ودهراً تولّى، يا بُثينُ، يعودُ
فنبقى كما كُنا نكونُ، وأنتم
قريبٌ، وإذْ ما تبذُلينَ زهيد